علماء قبيلة الأقلال وغيرهم في مدينة تيشيت التاريخية

لمحة تاريخية عن مدينة تيشيت ودورها العلمي والسياسي
ألقاها الأستاذ الفقيه محمد المختار بن امباله، في مهرجان المدن القديمة المنظم بشنقيط بين 16 و22 من فبراير 2011
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين: سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن القدسية التي أجد في نفسي لمدينة تيشيت ـ كأخواتها الثلاث من هذه الحواضر الأربع التي مثلت العمق التاريخي لهذا البلد ـ تجعلني أرتاح وأنجذب بعفوية للحديث عنها، ولكن صلة القرابة، وعدم الاختصاص، والتأثر بالمنهج الفقهي في البحث؛ الذي يقول:" إن العلماء مصدقون فيما نقلوا، لأنه موكول إلى أمانتهم، مبحوث معهم فيما قالوا من عند أنفسهم، لأنه نتيجة تفكيرهم"، أمور أعترف بها، وربما يكون لها أثرها في هذا الحديث، لذلك أستسمح الجميع، وخصوصا أصحاب الاختصاص الذين درسوا هذا الموضوع وسبروا أغواره وأنجاده بموضوعية وتجرد، فمحصوا الروايات ثم صححوا وفندوا، وافترضوا افتراضات برروها وأسسوا عليها، فإني لم أصل إلى تلك الدرجة، مع أن الغرض الأساسي عندي ليس الغوص في تاريخ تأسيس مدينة تيشيت، ولا من أسسها، ولا من سكنها، ولا من جاورها، ولا من أين جاء سكانها، ولا متى تأسست، فهذه أمور بعضها معروف، وبعضها مسلم، وبعضها غير مسلم، وإنما الغرض الأساس عندي إبراز قيمتها الحضارية، وإشعاعها العلمي، ودورها السياسي، وما قدمته للبلد حتى نعلم أن تيشيت اليوم ليست هي تيشيت الأمس، وأن لها أيادي بيضاء في تاريخ هذا المجتمع كسائر أخواتها، فعلينا جميعا أن نرعى حق هذه المدن التي كانت لنا بمثابة الآباء وأن نرد لها الجميل وهي في حالة الشيخوخة والهرم، وأن نتذكر فيها قوله تعالى في حق الوالدين، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}.
وبعد إمعان النظر في هذا الموضوع المتشعب الواسع، وفي تناوله في محاضرة من هذا النوع، وفي ظرف زمني محدود كهذا الظرف، ارتأيت أن أتناوله فيما يلي:
أولا: تأسيس مدينة تيشيت:
لا أريد أن أطيل عليكم بذكر موقع تيشيت الجغرافي لأنكم تعرفونه جميعا، ولكن أريد أن أنبه إلى أن موقعها الجغرافي هو الذي أهلها ردحا من الزمن لأن تكون مدينة الإقليم المزدهرة تجاريا واقتصاديا، وها هو اليوم يعد المسؤول الأول في عزلتها وتخلفها عن ركب التنمية، وربما يكون مرة ثالثة سببا في نموها وازدهارها، من يدري؟ فالأمر بيد الله وحده.
إن مدينة تيشيت كأخواتها الثلاث يصعب أن تجد إجماعا على رواية واحدة في أمر تأسيسها، وذلك لبعد الزمن، وقلة المراجع، والاعتماد على الحكايات الشفهية لذلك لا تجد واحدة من هذه المدن الأربع إلا وفي ابتداء تأسيسها حكايات متضاربة ولكنها تتفاوت في الصحة، فما نقله الثقاة من العلماء وارتضوه ودونوه ليس كغيره، وما اشتهر عند الناس فتناقلته العامة والخاصة ليس كخبر الآحاد، ولذلك لا أعتمد إلا على واحد من هذين النوعين، فأقول: إنه مما اشتهر عند الناس في قطرنا هذا عموما أن الشريف عبد المؤمن بن صالح الإدريسي هو الذي ابتدأ بناء تيشيت ثم جعل الناس يأتون إليه ويبنون معه كما هو الحال في كل مدينة، وهذا الذي اشتهر عند الناس هو الذي دونه علماؤنا من أمثال الشريف حمى الله بن أحمد بن الإمام (1169هـ)، وحمى الله الملقب امباله: ( 1290 هـ تقريبا)، وأحمد الصغير بن حمى الله:( 1273هـ)، وابنه شيخنا محمد بن أحمد الصغير بن حمى الله: (1324هـ)، ومحمد بن محمد بن المختار الشواف:(1176هـ)، قال امباله في كتابه (إرشاد الحكام): لم يزل ينقل سلف عن خلف كون الشريف عبد المؤمن هو الأول بنى، كما نص عليه في تقييده الشريف حمى الله، فأول بنائه المسجد، وداره بجانبه، ثم أخذ البناء ينمو، والناس تجيء حتى أتاه الحاج عثمان وكانا تلميذي القاضي عياض رحمهم الله تعالى، فاستقام أمرهم وأسسوا بنيانهم على العدل والإحسان حتى تروى أهل البلاد من أنوار علومهم وأسرارهم إلى أن عرفوا بين سائر الناس، فلم تزل فيهم الولاية والعلم إلى الآن كما أخبر به بعض أهل الكشف لمَّا سئل عنها فقال: أسست على التقوى وستعود إليها.
وذكر أنه كان في مكان غير بعيد من المكان الذي بنى فيه أهل أخصاص فطلب منهم أن يبنوا معه فلم يستجيبوا لذلك، قائلين لم يبق من الدهر ما تبنى فيه القصور.
وذكر القصة نفسها شيخنا محمد بن أحمد الصغير في كتابه (إنارة المبهم والمظلم) فقال: وأعلم أن مما اشتهر أن أول من بدأ في بناء تيشيت الشريف عبد المزمن بن صالح، ويقال إنه مرّ بموضعها قبل أن يبنى فيه، فقدم على البناء فيه، وموضعها أكم مرتفع عن الأرض، ومما يقال عن خبر قدوم عبد المؤمن وأبنائه أنه ارتحل عن شيخه القاضي عياض حين كان يقرأ عليه، وارتحل معه صاحبه الحاج عثمان المشهور المدفون بمسجد تيشيت، فصرفا همتهما إلى التوجه إلى بلاد التكرور، فلما حصلا فيها تفرقا، فارتحل الحاج عثمان إلى بلاد آدرار، وسار عبد المؤمن إلى بلاد تيشيت، وساكنوها يومئذ أهل الأخصاص على قدر فرسخ من جهة جنوب موضع القرية، فندب بعضهم إلى البناء فلم يساعدوه لعجزهم عن ذلك قائلين لم يبق من الدهر ما تبنى فيه القرى، فارتحل عنهم إلى الموضع الذي هي به الآن، وكان قد اصطحب حين قدومه من له حرفة البناء وآلات البناء فابتدأ ببناء المسجد، ثم بنى داره حذوه، ثم لما سمع الحاج عثمان بخبره ارتحل إليه فأقام معه.
وهذه القصة نفسها هي التي نظم محمد بن محمد بن المختار الشواف:(1176هـ) في منظومة مشهورة عند أهل تيشيت نقلها امباله في كتابه (إرشاد الحكام) وأشار لبعض هذه القصة الطالب بو بكر بن أحمد المصطفى المحجوبي الولاتي: (1335 هـ) في كتابه:(منح الرب الغفور) في معرض حديثه عن زيارته تيشيت، فقال: (مكثت بقرية تيشيت أربعين يوما أزور فيها قبور الصالحين كل يوم، ولا سيما قبر جد شرفاء تيشيت مولاي عبد المؤمن، وهو أول من قدم تيشيت وبناها وبنى مسجدها ودفن فيه، ومعه رجل ولي إدو لحاجي اسمه الحاج عثمان، يقال له : صاحب القبرين، لأنه يقال: إن له قبرا بقرية وادان وقبرا بقرية تيشيت يزار فيهما معا، وأنا - ولله الحمد- زرته بمسجد تيشيت، وبالمسجد أيضا جد آل الأمين بن الحاج، وهو أول من عثر على سبخة أمرسال تيشيت وقد زرته ولله الحمد ... وبلغني أن سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي قال: من فاتته زيارة قبور البقيع بالمدينة المشرفة فعليه بزيارة قبور صالحي تيشيت).
فهؤلاء كلهم متفقون على أن أول من بنى تيشيت هو الشريف عبد المؤمن، وأن الحاج عثمان انتقل إليه من وادان وسكن معه ودفن معه، وأنه وجد قريبا من محل المدينة أهل أخصاص لم يستجيبوا أولا للبناء معه فارتحل عنهم وبنى، ثم جاءه الناس ولم يذكر الشريف حمى الله امتناع أهل الاخصاص، وإنما ذكر أن الشريف عبد المؤمن انتدبهم للبناء، وأتاهم بمن له حرفة البناء، وبما لا بد لهم منه مما ألفاهم عاجزين عنه مما حصلت لهم به القدرة على البناء.
أما فيما يتعلق بتاريخ التأسيس فلم يتعرض له واحد من هؤلاء والمشتهر عند أهل تيشيت عموما أنها بنيت عام: (536هـ) وهو التاريخ الذي ذكره المختار بن حامد في موسوعته، وأظنه اعتمد في ذلك على الرواية عن بعض الشيوخ التيشيتيين، أما علماء أهل تيشيت فلم أر من نص منهم على تاريخ محدد غير سيد عبد الله بن امبوجه:(1247هـ)، ولكن هناك بعض الإشارات التي لا تنافي هذا التاريخ، بل تشهد له كقول امباله في (إرشاد الحكام): (تيشيت لها سبعمائة عام وفي الثامنة) وهو من أهل القرن الثالث عشر الهجري، وقد ألف كتابه هذا في بحر هذا القرن، وكقول محمد بن محمد بن المختار الشواف، وهو من أهل القرن الثاني عشر الهجري:
أخبرنا الثقاة أنها لها
ستمئين الله أعلم بها
وهناك معطيات أخرى لا يبعد أن تشهد لهذا التاريخ مثل رواية أهل وادان التي تقول إنه أسس سنة (536هـ)في نفس السنة التي أسست فيها تيشيت، فإذا كان ذلك صحيحا، والحاج عثمان أحد المؤسسين وقد جاء مع الشريف عبد المؤمن فإنه يجعل تأسيس تيشيت في تلك السنة أمرا ممكنا.
وكذلك وفاة القاضي عياض المعروف أنها سة:(544هـ) والشريف عبد المؤمن تلميذه وارتحل لتأسيس مدينة تيشيت وتركه حيا، وليس بين التاريخين إلا ثمان سنوات أما رواية سيد عبد الله بن امبوجه:(1247هـ) التي تدقمت الإشارة إليها فمضطربة ولا يمكن اعتمادها فقد قال في كتابه(فتح الرب الغفور):(بنيت تيشيت في آخر عام أربعمائة، بانيها الشريف الحسني عبد المؤمن عام خمسمائة، وقيل غيره) هكذا وجدت في نسخة محققة منه.
ثانيا: تيشيت بعد التأسيس
لم تسعفنا المراجع التاريخية، ولا الحكايات الشفهية بتسلسل الأطوار التي مرت بها مدينة تيشيت، ولكنها أفادتنا بأنها مرت بأطوار مختلفة تنعم بالرخاء والعافية أحيانا، وتتأثر بالحروب والشدة أحيانا أخرى، وتزدهر فيها العلوم والمعارف طورا، وتتراجع فيها طورا آخر، كما هو الحال في كل المدن التاريخية التي مرت عليها قرون متعددة، فالمتتبع لوثائق تيشيت من مراسلات ونوازل فقهية يلاحظ ذلك، زيادة على أن عالم تيشيت وشيخها شيخنا محمد بن أحمد الصغير صرح بذلك في (إنارة المبهم والمظلم) قال: (أخبرني من أثق به أن دولة تيشيت دامت ثلاثمائة سنة على العلم والدين والمال، وانقضت، ودامت عليه بعد ذلك ثمانين سنة، ثم انقضت بمجيء الفرانسة إلى بلاد التكرور بنحو خمسين سنة، ثم انتعشت لها دولة على العلم والمال وانقضت بمجيئهم).
وإذا نظرنا إلى ما قاله هذا العالم المحقق الثقة، وما ذكرته بعض المصادر الأجنبية، وما هو موجود في الوثائق التيشيتية نلاحظ أن هنالك حقبة زمنية لم يتكلم عنها أحد، ولا نعلم عنها شيئا وهي مما بعد تأسيس تيشيت إلى القرن التاسع الهجري، وليست هذه مشكلة تيشيت وحدها، فهنالك فترة مظلمة من تاريخ هذا البلد عموما لا نعرف عنها شيئا، وتمتد هذه الفترة من آخر القرن الخامس الهجري إلى الدخول في القرن الثامن، يقول المختار بن حامد في موسوعته: (باستشهاد أبي بكر بن عمر (480هـ) سكتت المصادر المختلفة عما جرى في الصحراء منذ ذلك الوقت حتى دخول بني حسان في القرن الثامن الهجري).
وكثيرا ما فكرت في هذه القضية فحيرتني؛ كيف يختفي قرنان وزيادة من تاريخ أمة بأكمله؟ كيف ينقطع هذا المد العلمي والجهادي فجأة بموت أبي بكر بن عمر ومن معه من رجال العلم كعبد الله بن ياسين والإمام الحضرمي؟ كيف لا ينقل امتداد لعلم الشريف عبد المؤمن والحاج عثمان والحاج يعقوب والحاج اعل ومحمد قل وأمثالهم من تلك الطبقة التي لا نشك في علمها وصلاحها وسيادتها وسياستها؟ ألم يتعلم من هؤلاء أحد؟ ألم يترك هؤلاء مؤلفا واحدا ولو صغيرا؟ ألم يخلف هؤلاء أحد في تعليمهم؟
فهذه أمور لا تقبلها العادة ولا تصدقها أوائل الآثار العلمية والأدبية التي اطلعنا عليها بعد هذا الانقطاع، فهي آثار علمية جليلة تنبئ عن مستوى رفيع من المعرفة، فموهوب الجليل شرح مختصر خليل لمحمد بن أبي بكر الوداني (ت:953هـ) وشرح الآجرومية للفقيه أند عبد الله بن سيد احمد الولاتي(ت:926هـ) وشعر سيدي عبد الله بن القاضي الملقب بابن رازكه:(1151هـ)، ونسخ محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد مسلم التيشيتي للجزء الثاني من تهذيب المدونة للبرادعي بيده سنة: (876هـ)، ونسخ محمد بن الإمام محمد بن أحمد بن الإمام حفيد الشريف عبد المؤمن شرح حكم ابن عطاء الله لابن عباد النفزي بيده سنة (963هـ) لاشك أنها امتداد لشيء كان موجودا قبلها، فكما لا نصدق أن ذلك المد العملي انقطع فجأة لا نصدق أيضا أن هذا المستوى المعرفي جاء فجأة.
والصلة بين هاتين الفترتين هي الحلقة المفقودة التي نرجو من أصحاب الاختصاص البحث عنها حتى يصلوا حاضر أمتهم بماضيها مشكورين مأجورين.
ثالثا: النظام الاجتماعي في تيشيت
لا يخفى ما للتنظيم من أهمية في التعايش السلمي والتنمية والحفاظ على أمور الدين، فأي مجتمع يريد البقاء لا بد له من نظام يحكمه، لابد له من قواعد يجتمع عليها، وهذا ما وعاه أهل تيشيت، فقد كان لهم نظام يلائم حياتهم المدنية داخل مجتمع بدوي تسود فيه الفوضى، وتغيب السلطة، فحافظوا بذلك على كيانهم الحضري ودافعوا به عن مصالحهم الدينية والدنيوية، وقد أشرت سابقا إلى أن هناك فترتين متمايزتين من تاريخ تيشيت، إحداهما لا نعرف عنها إلا النزر القليل وهي ما بعد التأسيس إلى القرن التاسع الهجري، وهذه الفترة لم نجد عن تنظيمهم فيها إلا إشارة مقتضبة وردت في تقييد الشريف حمى الله المشار إليه سابقا، فبعد أن ذكر فيه أن الشريف عبد المؤمن لما وفر متطلبات البناء لأهل الأخصاص (تشاوروا فيما بلغنا ما ذا يجمعون عليه أمرهم، ويؤسسوا عليه أساس بنيانهم، ويكون عليه معولهم في أمورهم من العدل والإحسان).
أو إشارة أخرى أكثر اقتضابا ذكرها امباله بن امحمد بن حمى الله، في معرض حكايته خبر تأسيس المدينة حيث قال: (فاستقام أمرهم، وأسسوا بنيانهم على العدل والإحسان).
أما الفترة الثانية، وهي التي أمدتنا فيها المراجع والوثائق والحكايات بقدر من المعلومات عن تاريخ المدينة، فإننا تمكنا من الاطلاع على التنظيم الذي كان سائدا فيها، وذلك عن طريق الوثائق، والفتاوى، وبعض المؤلفات فعلى المستوى الديني كانت هنالك وظائف دينية ثابتة بمثابة الخطط الشرعية عندهم، وهي إمامة المسجد، وقراءة الحزب، وقراءة صحيح البخاري، وقراءة الشفاء للقاضي عياض، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم، وإيقاد قنديل المسجد، وكانت هذه الوظائف مقسمة بين أسر معينة تتوارثها لا يتولاها إلا واحد منها، وظل بعض ذلك قائما إلى وقت قريب جدا، فكانت إمامة المسجد وقراءة الحزب حكرا على أبناء الشريف عبد المؤمن، وإمام المسجد هو الذي يقرأ الحزب ويقرأه معه من يحفظه، ومع مرور الوقت ترسخت الإمامة في فرع معين من فروع أبناء الشريف عبد المؤمن، وغلب عليهم لقب (أهل الإمام تيشيت)، كما أنه مع مرور الوقت تحررت وظيفة الحزب بسبب أن الإمام كان ينيب غيره في قراءته، ثم صار بعد ذلك يقرأه كل من نصب نفسه لذلك.
وكانت قراءة صحيح البخاري والشفاء حكرا على أبناء الفقيه محمد مسلم، وكانت وظيفة إيقاد القناديل حكرا على أبناء الحاج عثمان.
وكانت المدائح النبوية في المسجد لأبناء الشريف عبد المؤمن وأبناء الفقيه محمد مسلم ذكر هذه الوظائف كلها بتفصيلها هذا العلامة امباله في كتابه: (إرشاد الحكام).
وكانت هذه الوظائف في ذلك الوقت تمثل قمة الشرف، وتبذل فيها المهج، ولم يكن هذا خاصا بتيشيت، فما من واحدة من أخواتها الثلاث إلا كان فيها ما يماثل هذا وخصوصا إمامة المسجد، ولذلك تجد في كل واحدة من المدن الأربع أسرة غلب عليها لقب "الإمام" ومرت على هذا عصور طويلة ودأب عليه العلماء، وكان محل إنكار من بعضهم متمسكا بما هو معروف في الشريعة من أن المناصب الشرعية لا تستحق بالتوريث وإنما تستحق بالأهلية العلمية والدينية، ولا شك أن أهل هذه المدن كانوا أهل علم وصلاح واتباع، فلا يورثون هذه المناصب إلا من فيه أهليتها من تلك الأسر، فنظروا من الناحية الشرعية إلى الأهلية، ومن ناحية المصلحة إلى الأسرة، وقد دافع عن هذه القضية الطالب ببكر الولاتي في كتابه (منح الرب الغفور)، فقال: (أعلم يا أخي وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن عادة أهل ولاتة في الإمامة موافقة للشرع العزيز، فهي خالدة دائمة في لمحاجيب ما أقاموا الدين كما فعل صلى الله عليه وسلم في مفاتيح الكعبة فجعلها بيد بنى عبد الدار خالدة، وكما فعل في سقاية الحاج، وكما قال في الإمارة إنها في قريش ما أقاموا الدين إلى غير ذلك من الوظائف الشرعية، وكذلك إمامة ولاتة لا تكون إلا في المحاجيب في بيت العلم منهم والدين والحسب).
وذكر أنها تنقلت في بيوتهم كلما انقرض العلم والدين من بيت انتقلت منه إلى بيت آخر، وبهذا يظهر أن لأهل هذه المدن مستندا شرعيا فيما قرروا في هذه الوظائف، وأنهم لا يعطونها إلا لمستحقها شرعا من تلك الأسرة المخصوصة بها، فإذا لم يوجد فيها متأهل لها نقلوها إلى فرع آخر من فروعهم يوجد فيه متأهل لها، ولا يخفى ما في هذا من المحافظة على الحكم الشرعي من حيث أنها لا تسند إلا لمتأهل لها ومن المحافظة على المصلحة من حيث لا تنقل عن تلك الأسرة مادام فيها من يصلح لها لأن ذلك أقطع للنزاع، وأدعى للألفة والاجتماع.
وفي الناحية الاجتماعية والاقتصادية كانوا منظمين أيضا، فكانت الرفاق منظمة ولكل رفقة رئيس، والطرق التي تمر بها مؤمنة باتفاقيات تبرم مع من له سيطرة على الممرات التي تمر معها، وما تبذله من مال في الدفاع عنها وتأمين مصالحها مقنن توزيعه بفتاوى شرعية صادرة عن فقهاء هذه المدن، وزمن سفرها شمالا وجنوبا معروف ومضبوط لا يتخلف، ولذلك تضبط به الآجال، فيقال عند (أقبيظ أقاب) أي عند ابتداء تسيير القوافل.
وكانت الدور منظمة، ولكل غرفة من غرف الدار اسم ووظيفة، وبعضها مخصص للصيف وبعضها مخصص للشتاء، وحتى المسجد كان منظما تماما فكانت أوقات الصلوات النهارية مضبوطة بالظل، وأوقات الصلوات الليلية مضبوطة بالنجوم، وكانت الظهر والعصر تصليان داخل المسجد في كل الأزمنة، وأما المغرب والعشاء والصبح فتكون داخل المسجد خمسة أشهر من السنة من جمعة نوفمبر الأولى إلى جمعة ابريل الأولى، وتكون خارجه في صحنه سبعة أشهر من السنة من جمعة إبريل الأولى إلى جمعة نوفنبر الأولى، ويسمون ليلة جمعة نوفنبر الأولى "ليلة دخول الإمام" وليلة جمعة ابريل الأولى "ليلة خروج الإمام" ويمدحون النبي صلى الله عليه وسلم في كل منهما.
وكان هذا النظام نفسه عند أهل ولاتة، فقد عده الطالب ببكر من عوائد أهل ولاته التي قال عنها إنها موافقة كلها للحق إما شرعا وإما طبعا، وقال في هذه العادة بالذات (فهذه عادة موافقة لصحة البدن لأن أول الحر ابريل، وأول البرد نفمبر، وحفظ الصحة واجب) وكان لكل دار من الدور الكبيرة كلمة سر لا تفتح إلا بها، وهي عبارة عن علم شخص فإذا دق أحد الباب وسمى ذلك الاسم يفتح عنه، وإلا فلا يفتح عنه حتى يعرف، وذلك العلم الذي تفتح به الدار صاحبه غير موجود، فربما يكون صاحبه بوابا أو عاملا قديما قد مات وبقى اسمه يستخدم لهذا الغرض، وفي نظري أن هذه العادة ربما تكون ناتجة عما كان سائدا من الحذر والخوف في بعض العصور ثم بقيت بعد ذلك.
وفي الناحية السياسية كانت الأمور تسير بانتظام من طرف جماعة الحل والعقد التي كانت تتمتع بكل الصلاحيات، فتبرم العقود، وتوقع الاتفاقيات، وتقرر العطايا وتدافع عن المصالح، وتخاطب الأمراء، وتفرض الديات، وتقرر الحرب والسلم، ومع ذلك فليس لهذه الجماعة جهة تعينها ولا هيأة تنتخبها، وإنما يفرزها المجتمع، فتستمد شرعيتها من مكانتها الدينية والاجتماعية والاقتصادية والتعرض للقيام في المصالح العامة والبذل فيها. وكان لكل تجمع متكيف وحده جماعة حل وعقد.
وقد أضفى فقهاء العصر على هذه الجماعات الشرعية نظرا لغياب سلطة الدولة، وأعطوها صلاحيات واسعة، وجعلوها تقرر على من تحت سلطتها وتلزمه قراراتها، فأعطوها صلاحيات جماعة الحل والعقد في الأمة، وتمسكوا في ذلك بأدلة شرعية، منها ما ذكره احمد الصغير بن حمى الله التيشيتي في كتابه (فتح القدوس)، وهو ما في صحيح البخاري من قصة هوازن حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما بعد فإن إخوانكم هوازن جاؤوا تائبين، وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم من أحب منكم أن يطيب فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل)، فقال الناس: طيبنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم). فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا.
قال أحمد الصغير: وهذا الحديث صريح في اعتبار إذن عرفاء سائر القبائل لأن العرفاء وكلاء عمن تحتهم.
ومعتمدهم الأقوى وحجتهم الأساسية عدم وجود إمام يقوم بأمر الأمة، ويحمي المصالح ويرد المفاسد فنقلوا سلطاته للجماعة مخافة أن تضيع المصالح العامة.
وقد نقل أحمد الصغير عن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيد المختار الكنتي:(1242هـ) رحمهم الله تعالى أنه قال: ( المعمول به لزوم قيام العموم بالمصالح العامة، ويجبر الإمام من أبى ذلك، وكل ما للإمام الحمل عليه للجماعة القائمة مقامه – حيث لا إمام – الحمل عليه لعموم الفساد بفساده وعموم المصلحة بصلاحة ). (فتح القدوس)
وقال الفقيه الشريف حمى الله التيشيتي في فتوى له تتعلق بجماعة تحملت دية عمر فأبى بعض أفراد القبيلة من دفع حصته:( إن الدية لازمة للقبيلة كلها بتحمل أعيانها المعتمدين بالقيام بما فيه مصلحتها ودرء المفسدة عنها).
وجعلوا من صلاحيات هذه الجماعة تنصيب القضاة ، فقد نقل شيخنا محمد المختار بن امباله في فتوى له في الموضوع عن العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم:( 1233هـ) أنه قال : ( فإن الانتصاب للقضاء يكون من جهة السلطان، أو جماعة المسلمين في بلد لا سلطان فيه ، لأن جماعة المسلمين تقوم مقام الحاكم في كل موضع لا سلطان فيه أو يتعذر الوصول منه إلى السلطان كما ذكر خليل في قوله ( وإلا فلجماعة المسلمين)، ويكون صريحا أو التزاما بأن يروا الناس يذهبون إلى شخص المرة بعد المرة ولا ينهونه، ولا ينهون الذاهبين إليه).
وأظن أن هذه الطريقة الضمنية في تولية القضاة كانت هي الغالبة في تيشيت ، وربما في غيرها، لأني لم أطلع على ما يفيد أنهم اجتمعوا وقرروا تولية القاضي الفلاني، مع أنهم كانوا يجتمعون لتقرير كثير من الأمور التي تقدمت الإشارة إليها، بل ذكر الشريف حماه الله في فتاويه أنهم اجتمعوا عند باب المسجد لضبط المكاييل.
ولعل هذا هو السبب في أن تكون وظيفة القضاء في تيشيت حرة ليست داخلة في التقسيم المذكور ، فكل من تأهل للقضاء علميا ومارسه عمليا اعتبروه قاضيا من أي قبيلة كان ، ومن أي أسرة كان.
رابعا: تيشيت ودورها في التنمية
إن شهرة تيشيت بالعلم والدين كانت توازيها شهرتها بالتجارة والازدهار الاقتصادي لأن موقع تيشيت الجغرافي المتوسط بين المراكز التجارية في الجنوب والمراكز التجارية في الشمال أهلها لأن تلعب دورا اقتصاديا وتنمويا مهما في ذلك الوقت فكانت محط رحال القوافل المتجهة من الجنوب إلى الشمال، والقوافل المتجهة من الشمال إلى الجنوب، إذ لم تكن هناك نقطة عبور تحاذيها أو تقاربها، كما أنها كانت على مسافة من كلا الجانبين تسمح لها بالتبادل معه بسهولة لقصر المسافة بينهما، كما أهلها ذلك لأن تكون منطقة تبادل تجاري بين المحور الجنوبي والمحور الشمالي وقد وصفها أحد الباحثين الغربيين بأنها، ازدهرت كمحطة هامة للتبادل التجاري منذ نهاية القرن : 9/15
وكانت تتفرع منها خطوط تجارية ثلاثة متجهة إلى الجنوب، وتجتمع فيها متجهة إلى الشمال، فكان ينطلق فيها خط تجاري متجه إلى ولاته وتنبكتو وباغنه، وخط آخر متجه إلى زاره، وخط آخر متجه إلى أودغست وما إلى ناحيتها.
فبهذا الوضع المتميز، وبنشاط أهلها وخبرتهم التجارية ازدهرت المدينة ازدهارا كبيرا، وكثرت قوافل أهلها، وتحدث الناس عن عمارتها وضرب بها المثل، فنقل عن العلامة سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم أنه قال: ( لكل إقليم مدينة ومدينة إقليمنا تيشيت)، وقال في صحيحة النقل: ( خرجتْ يوماً من شنجيطَ رفقةٌ اثنانِ و ثلاثونَ ألفاً موقّرةً بالملحِ، عشرونَ لأهلهِ، و اثني عشرَ لأهلِ "تيشيتَ"، و باعت الرّفقةُ كلها في "زَارَ" فتعجّبَ النّاسُ أيّ البلدَينِ أعمرُ) ، ووثائق تيشيت وحكايات أكابرها شاهدة بهذا الازدهار وشاهدة بأهمية القوافل ودورها في تنمية المدينة، يقول شيخنا محمد بن أحمد الصغير: (تيشيت قرية لا تصلح إلا بالرفاف )، وجاء في إحدى رسائل جماعة أهل تيشيت إلى أحد أمراء السودان : ( ومدينتهم هي قطب رحى هذه البلاد ، وإليها تنتهي غايات من حولها من العباد)
وقول محمد بن انبوي ابن عشاي الصغير الماسني التيشيتي : ( .. فلا توجد في بلد غير بلدنا هذا الذي هو أعمر بلادنا بأنواع الخير).
ويقول أحمد الصغير بن حمى الله التيشيتي في رسالة منه إلى الأمير أحمد لب الماسني: (وتيشيت التي هي مصر هذه البلاد .... لا مقام لأهلها إلا بالضرب في الأرض للابتغاء من فضل الله)
وقد أكسب واقعها هذا أهلها خبرة تجارية متميزة، يقول أحمد الأمين في كتاب (الوسيط) : ( تيشيت مدينة مشهورة وأهلها أدرى من أهل تلك البلاد بالتجارة ).
وجاء في بعض رسائل أهلها: ( إن أهل تيشيت جعل الله تعالى أسباب رزقهم من قديم الزمان بالاختلاف على رسم التجارة إلى بلاد السودان).
خامسا:مكانة تيشيت العلمية
إن شهرة تيشيت لم تكتسبها إلا بالعلم والدين حتى أصبحت رمزا لذلك ، فتيشيت مدينة العلم والعلماء والاستقامة، فأهلها لم تلههم دنياهم عن دينهم وإنما أعانتهم عليه، وقد تقدم ما نقله امباله عن بعض أهل الكشف من أنها أسست على التقوى وستعود إليها.
وما نقله الطالب ببكر عن سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم من أنه قال: ( من فاتته زيارة قبور البقيع بالمدينة المشرفة فعليه بزيارة قبور صالحي تيشيت)
إن مكانة تيشيت العلمية، وإشعاعها المعرفي، وعطاءها الثقافي والحضاري يستحق أن يذكر ويشكر، فمكتباتها الغنية بنوادر المخطوطات، ومناراتها العلمية والدينية الشاهقة في أنحاء الوطن، والشخصيات الفذة التي نهلت وعلت من معينها العلمي شاهدة بهذه المكانة، ولا يمكنني استقصاء ذلك، وسأقتصر منه على نقاط محدودة :
1- أن مدينة تيشيت امتازت قديما وحديثا بكثرة الكتب وخصوصا المخطوطات ونفائس الكتب النادرة، فقد كان لأهلها اهتمام كبير بجمع الكتب ونسخها وشرائها، وامتاز أهلها بحسن الخط، فإذا علمنا أن أحد أحفاد الفقيه محمد مسلم نسخ تهذيب المدونة للبرادعي بيده سنة:(876هـ)، وأن أحد أحفاد الشريف عبد المؤمن نسخ بيده شرح حكم ابن عطاء الله لابن عباد سنة (963هـ)، وأن أحمد الصغير قال في فتح القدوس إن أبا بكر بن الأمين المسلمي: (11هـ) خلف خزانة كبيرة، وأن عائشة ابنة أبي بكر المذكور اشترت نسخة مخطوطة من فتح الباري على صحيح البخاري بقيمة سبعين حقا من الإبل ذهبا وأوقفته على المكتبة والنسخة مازالت موجودة. وهذه المعلومات مقيدة عليها، وأن البرتلي قال: (إن الحاج الحسن بن آغبد الزبيري التيشيتي (1123هـ) كانت له مكتبة نفيسة كبيرة مشتملة على عدة فنون إذا علمنا هذا كله نعلم أن مكتبة تيشيت منذ القرن التاسع وهي تنمو وتتراكم وأن أهمية الكتاب والعلم ترسخت في الذهنية التيشيتية، فإذا كانت بناتها تشترين الكتب بهذه الأثمان فما ظنك بأبنائها، وقد بلغت المكتبة التيشيتية أوج ازدهارها في القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجريين، وهما قرنا الازدهار المعرفي في هذه البلاد، فتعددت بيوتات العلم، وتعددت المكتبات بتعددها، ورغم ما تعرضت له مكتبات تيشيت من النهب على أيد المستعمرين والضياع بسبب الإهمال وبعض الكوارث ظلت تيشيت تحافظ على ثروة هائلة من المخطوطات حتى احتلت الرقم الأول في القطر الموريتاني عامة عند ما قام المعهد الموريتاني للبحث العلمي بأول إحصاء للمخطوطات الموريتانية.
2 ـ أن أول مدونة للنوازل الفقهية في هذه المنطقة ـ حسب علمي ـ هي تلك المدونة التي قام بجمعها وترتيباتها الفقيه انبوي بن الإمام الولاتي المحجوبي، وقد جمع فيها نوازل تسعة من أشهر العلماء وأكثرهم فتاوي، وكان من بين هذه التسعة أربعة من تيشيت وحدها، وهم: محمد بن فاضل الشريف(1160 هـ) وأخوه أحمد بن فاضل الشريف(1153هـ) وقد أشتهرا بعالمي الشرفاء، وشريفي العلماء، وابن اختهما وابن عمهما الشريف حمى الله ابن احمد بن الإمام: (1169هـ)، والحاج الحسن بن آغبد الزيدي: (1123هـ) شيخ الأخوين المذكورين أولا.
أما الخمسة الباقون فهم: محمد بن المختار بن الأعمش العلوي الشنقيطي (1107هـ) ومحمد بن أبي بكر بن الهاشم الغلاوي الولاتي (1098)، وحبيب الله بن المختار الكنتي، وابن هلال والورزازي المغربيان.
وليست هذه الحلقة من علماء تيشيت بداية السلسلة ولا نهايتها، فالحاج الحسن الذي ذكرت أنه شيخ الأخوين الفاضلين، أخذ العلم عن القاضي الفقاري التيشيتي والقاضي الفقاري أخذ عن أبي بكر بن احمد بن الشغ المسلمي التشيتي، وذلك أخذ عن أبي الأوتاد الحنشي التيشيتي القلاوي، وذلك هو الذي أخذ مختصر خليل عن أيد القاسم الوداني وذلك أخذه عن أحمد الفزازي الواداني، وذلك أخذه عن محمد بركات، وذلك أخذه عن محمد الحطاب، فهذا هو سند أهل تيشيت في المختصر، وهو من أعلى الأسانيد في المنطقة أما باقي السلسلة فحدث ولا حرج، فقد انتشر العلم وكثر العلماء منذ القرن الثاني عشر وما بعده بحيث لا يمكن حصرهم، فمنهم أبو بكر الطفيل ، وامحمد بن حمى الله بن الشواف، وابنه اهمار اسري وابنه الآخر امباله، وأحمد الصغير بن حمى الله وابنه محمد المسلميون، ومنهم بعض أبناء محمد بن سيد الشريف ومنهم محمد بن يدغوره الماسني الكابي قاضي تيشيت، وبعض أبناء عشاي الماسينون ومنهم أبناء أهل بوز الحاجيون، ومنهم حمى الله بن محمد الأمين الحنشي القلاوي ، ومنهم أبناء امبوجه العلويون القاطنون بتيشيت، والقائمة تطول، ومنها في العصر الأخير شيخنا محمد المختار بن امباله، وشيخنا بوي احمد بن بعيسريه، والقاضي العدل التقي أحمد بن محمد الأمين بن الشريف المختار، وأحمد بن خطري، وغيرهم، وليس هذا إلا غيضا من فيض.
3- أن عطاء تيشيت العلمي قد امتد إلى النواحي الأخرى، فقد أضاءت أرجاء هذا الوطن بعلومها وعلمائها ومشايخها فكانت قبلة الدارسين ومنهل العلماء العاملين فهذا علامة القطر الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم درس فيها كما هو موجود في بعض الوثائق، وذكره أحمد الصغير في فتح المقيت إذ قال فيه : ( وأما كون سيد عبد الله قد قرأ في مدرستنا فلا يلزم منه علمه بالأحوال)، فرد بهذه العبارة على عالم آخر من علماء تيشيت قال له : سيد عبد الله قرأ في مدرستكم ويعلم أحوال القصر.
وهذا أشهر شخصية دينية في منطقة « القبلة» الشيخ سيدي الكبير درس فيها على اهمارس بن امحمد بن حمى الله المسلمي، وبعد أن تضلع الشيخ سيدي من العلوم في تيشيت وألف فيها كتابه ( تحفة الأطفال على لامية الأفعال ) أشار عليه شيخه أن يتوجه إلى الشيخ سيدي المختار الكنتي ليأخذ عنه الطريقة القادرية فكان ذلك سبب ذهابه إلى الشيخ سيد المختار وأخذه عنه وهناك شخصيات أخرى من أهل تيشيت خرجت منها لنشر العلم والدعوة إلى الله، فكانت مصابيح يهتدى بنورها في الأمكنة التي حلت بها، نذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر :
أ – الشيخ سيد محمد بن الحاج أبي ردة(1188 هـ) ، فهو من علماء تيشيت المشهورين ، وأبوه من صلحائها تتلمذ على جدنا المختار الشواف وتربى على يديه ، وخرج الشيخ سيد محمد من تيشيت إلى نواحي ولاتة فنفع الله به الناس وتعلموا منه، وانتشر العلم والسيادة في ذريته حتى قال فيهم صالح بن عبد الوهاب في الحسوة البيسانية: ( وبيت سيد محمد ابن الحاج أبي ردة من أجل بيوت الزوايا وأعظمهم قدرا وسيادة في أرضنا قبل تغير الزمان وكثرة الفساد في هذه البلاد، وسيد محمد هو سبب عزهم ورياستهم، وهو الولي العارف المشهور).
وظلت تلك العلاقة الروحية التي نشأت بين الحاج بورده وشيخه المختار الشواف وعشيرته عموما تربط بين ذريته وذرية الشواف، كما ظلت تيشيت حاضرة في أذهان أولاد الحاج بورده ومرتبطة بأهلها ، والرسائل المتبادلة بين الطرفين أوضح دليل على ذلك، ولنستمع إلى إحداها وهي موجهة من بعض أولاد الحاج بوردة إلى آل أحمد بن الشغ(ق 10 هـ)، ( المسلمين ) تقول : ( ونحن سيوفكم القاطعة، ورماحكم القامعة، فأصيبوا بنا مقاتل من أردتهم ، وولوا بنا أوليائكم وعادوا بنا أعدائكم، فالله ناصرنا على من عاداكم، وحافظكم بنا إن شاء الله، فإننا قد رفضنا غيركم رفضا، ونفضنا أيدينا من غبار صعيد غيركم نفضا، ونرجو الله القدير أن يجعلكم لنا حرزا مكينا، وحصنا حصينا، ويرفع الله عنا بكم كل هم وغم وشدة وضيق، أبقاكم الله لنا وأبقانا لكم، ولا رمى بيننا وبينكم سهم الفراق إلا بالمواطن والمباني لا بالأرواح والمعاني ، والله تعالى هو المسؤول في إنجاز السول ، وبلوغ المأمول ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم لا يحول ولا يزول الحبيب بن ابراهم ، ومحمد الأمين ، والطالب بن أبي بكر.
ب- سيدي محمد بن الحاج الحسن بن آغبد الزيدي الداودي التيشيتي(1159هـ) ، خرج من تيشيت إلى نواحي ولاتة وباسكنو سنة 1154هـ ، وخرج معه أيضا علماء آخرون تيشيتيون من أبناء زيد، وهم أولاد موسى بن إيجل، والتحق أولاد إيجل فيما بعد بآل بورده، وأسس الجميع محاظر وعلموا ودرسوا في تلك المنطقة المحاذية لباسكنو، والواقعة بينه وبين ولاته ومازالت بقايا تلك المحاظر في تلك المنطقة.
وقد تحدث صالح بن عبد الوهاب في الحسوة البيسانية عن هذه البيوت فقال:( الحاج سيد محمد وأبوه الحاج الحسن بن آغبد من أولاد زيد بن داود بن اعروق كانا عالمين مشهورين وكانا ساكنين بتيشيت وكانت لهما بها رئاسة علم مشهورة، وقد انتقل سيدي محمد من تيشيت إلى ولاتة، وسكن بعض أولاده في باسكنو)، وقال: (إن محمد بن موسى بن إبيجل( 1117 هـ) الزيدي وابنه الطالب سيد أحمد واعل ثالول بن الطالب سيد أحمد المذكور، كلهم علماء وخرجوا من تيشيت مع أهل الحاج الحسن وسكنو البادية مع أهل برده).
وورد في بعض المراجع أن عثمان بن الحسن بن الحاج التيشيتي كان يدرس ويؤم في تنبكتو.
ج- الشريف الولي الداعية إلى الله بحاله وبمقاله شيخنا أحمد حماه الله الذي أضاءت أنوار زاويته في انيور منطقة إفريقيا الغربية عموما، وهدى الله به الملايين، وأحيي به الدين، فانقاد له العلماء، واستقام به الجهلاء، وزكى نفوس الجميع بمنهجه البديع، وحصنه المنيع، وذوقه الرفيع، ونفع الله به البلاد والعباد وانتشرت دعوته وزواياه في إفريقيا حتى أزعج النصارى المستعمرين فسجنوه ونفوه ولم يزده ذلك إلا نفورا منهم وإصرارا على دعوته.
والحي الذي فيه زاويته من مدينة انيور المالية كان ومازال يطلق عليه اسم تيشيت .
د- شيخنا محمد المختار بن امباله خرج من تيشيت بعد أن تربى بها ودرس على علمائها فأسس محظرته في الحوض فكانت قبلة الدارسين – لا من منطقة الحوض فحسب بل من ارقيبة وآفطوط وأزواد ومالي – وتخرج منها العلماء والقضاة وحفظة القرآن والشعراء وكان مرجع الفتوى في الحوض وتيشيت، وكان عالم الحوض بلا منازع ، وقد سأل أحد الحكام الفرنسيين في تنبدغة العالم الشيخ القاضي الأديب الشيخ المحفوظ بن بيه من أعلم أهل الحوض ؟ فقال له : محمد المختار بن امباله .
وكان من النوادر في الحوض الذين يحفظون القرآن بالقراءات السبع، وقد أجازه فيها شيخه عالي بن آفه الدليمي ، وهو أحد رجالات تيشيت الذين لا تذكر لهم بها علاقة ، وقد كان في تيشيت ونواحيها، ولا أدل على ذلك من أنه درس مجموعة كبيرة من أبناء تيشيت منهم شيخنا محمد المختار بن أحمد بن امباله(1356 هـ)، وهمار اسري بن محمد بن امباله، وابن عمهم محمد بن أحمدي هؤلاء الأربعة كلهم أجازه في القراءات السبع، ومنهم محمد بن المختار سري بن امباله، وقد أجازه في قراءة نافع، ومنهم غير هؤلاء، وقد انتقل إلى الحوض وتوفي فيه تغمده الله برحمته.
هـ - أسرة أهل أحمد بن أداعه الماسنية الكابية، أسرة العلم والتقوى التي أسست محظرة في الحوض أيضا فانتفع بها الناس وتعلموا فيها، وحفظ فيها خلق كثير القرآن وما زالت قائمة اليوم في ضواحي مقاطعة النعمة، وكان من آخر مشائخها الكبار الشيخ أحمد فال، وكان شيخا فاضلا زاهدا عابدا، وكانت له بركة ظاهرة يسر الله حفظ القرآن على يديه ، وتوفي في الثمانينيات.
و – أسرة أهل الطالب هامه التيشيتية الحنشية القلاوية انتقلت إلى ارقيبة وسكنت في اجلالفه، وكانت أسرة علم وصلاح، وكان الطالب أحمد بن الطالب هامه القلاوي مرجعا للفتوى ، وكان بعض القضاة يتخذه مرجعا في أحكامه.
سادسا: مكانة تيشيت السياسية
لعبت تيشيت أدوارا هامة في سياسة المنطقة، فأهلها لم يلهمهم الاشتغال بالدين عن سياسة الدنيا، ورغم أنه لم تكن هناك سلطة فإن أمور السياسة كانت تسير بانتظام وإحكام، وكانت لتيشيت علاقات مع الدولة العلوية في الشمال، كمالها علاقات أكثر مع الإمارات السودانية في الجنوب لأن لها مصالح في كلا الجهتين، وقد نشأت داخل تيشيت نفسها مشيخات قبلية كبيرة كان لها دورها في سياسة المنطقة، مثل مشيخة أولاد بله، ومشيخة ما سنة، ومشيخة أولاد بفايده، وقد انتقل بعض التجمعات التيشيتية إلى الحوض وساهم في إعماره وله الآن دور مهم في سياسته، كما انتقلت مجموعات أخرى إلى شمال جمهورية مالي ومع طول الوقت انصهرت في المجتمع المالي وأصبحت جزء من نسيجه الاجتماعي ويستنتج هذا كله من أخبار الثقاة، ومن الوثائق والمراسلات التي تعج بها مكتبات تيشيت وسنستشهد من ذلك بنماذج، منها:
1- رسالة من جماعة تيشيت إلى سلطان المغرب المولى إسماعيل(1056 - 1139 هـ). يشكون إليه قواده في المنطقة، ويذكرونه بظهير قد أرسله إليهم يعفي أهل تيشيت من المكوس، ويطلبون منه ظهيرا جديدا، فيقولون له في الرسالة: ( تبليغ السلام وغاية الإكرام من جماعة أهل تيشيت إلى أمير المؤمنين مولانا إسماعيل فقد جاءتك شكوى خدامك أهل تيشيت شاكين مما فعل بهم قوادك، وقد أرسلت إليهم كتابا أنهم لا يؤخذ منهم قليل ولا كثير، ومع ذلك ترك القواد العمل بما في الكتاب وعملوا بهوى أنفسهم... أما الآن فقد جئنا واقفين ببابك نطلب منك أن تدبر علينا، وتنهي قوادك عنا، وترسل إلينا كتابا وأمارة ينفعنا وترسل للقواد بمثل ذلك).
وكتبوا رسالة أخرى باسم جماعة تيشيت إلى سيدي أحمد بن ناصر الدرعي يطلبون منه المساعدة عند السلطان في هذه القضية.
وأرسلوا إلى المولى إسماعيل رسالة أخرى يظهر من خلالها أنها جواب لرسالة وجهها إليهم لم نطلع عليها.
وتدل الوثائق على أنهم كانوا يؤدون إلى عماله مالا لأنه ورد في بعض الوثائق أن المجموعات المتجاورة في تيشيت ما كانت تجتمع في عطاء غير هذا العطاء، فإذا جاء عمال السلطان ويسمونهم ( امحال ) اجتمعت جماعة أهل تيشيت عموما عند جدنا الشريف أحمد بن أحمد بن الإمام(1178هـ) أحد الأخوة الثلاثة المشهورين بالعلم والفضل: الشريف أحمد، والشريف حمى الله، والشريف المختار ليقرروا في أمر هذا العطاء .
أما في الناحية الجنوبية فلم تكن هناك سلطة مركزية كما في الشمال، وإنما كانت هناك إمارات متعددة وبعضها غير متسقر، وظل أهل تيشيت يتعاطون مع الجميع، ويسيرون العلاقة معهم عن طريق الوفود والرسائل والعطايا ليضمنوا سلامة القوافل والحصول على ما يحتاجونه من تلك الجهة لميرتهم وتجارتهم فقد كاتبوا أحمد لب الماسني ( ولد 1190 ) مؤسس إمارة ماسنة بالشمال الشرقي من مالي ( وعاصمتها " حمد الله " )، وكاتبوا نوابه وقواده، ومما جاء في رسالة منهم لأحد نوابه : (إنه من كافة أهل تيشيت ومن يحوم حولها إلى القائد نائب الخليفة ) وأثنوا على الخليفة، ووصفوه بأنه القائم بسنة الجهاد، والقامع لعبدة الصلبان والأصنام ثم خاطبوا نائبه قائلين:( أما بعد قد بلغنا مقدمكم الميمون بأرض باغنه وقد منيت بلعمان سيوفكم القاطعة والطاعنة من تجبر الجبابرة وتفرعن الفراعنة فسررنا بذلك... وقد صادف ذلك ورفاقنا على الرحيل قد عزمت فاتجهت إليكم في حفظ الله تعالى داخلة تحت لواء حمدكم واثقة بحسن عهدكم... إلخ).
ثم طلبوا منه في بقية الرسالة تأمين رفاق المسلمين عموما، ورفاق أهل تيشيت خصوصا، وطلبوا منه أن يكون له وجود دائم في باغنه، وذلك لأمرين : الأول تأمين ما يمر بها من قوافل المسلمين، والثاني ليتصل بعض أهل الاسلام ببعض واعتذروا له عن متاجرتهم مع هذه البلاد الكفرية بأمرين: الأول أن ضرورة المعاش داعية لذلك، والثاني أن ما يأخذونه منهم من الطعام فيه إضعاف للكفار وليس فيه إعانة لهم.
ولما ظهر الحاج عمر الفوتي:(1891هـ) وأعلن الجهاد وبسط سلطته على كثير من تلك البلاد تواصلوا معه أيضا بالزيارات والرسائل ، فأحمد الصغير بن حمى الله توفي في طريق العودة من مهمة كان يقوم بها نحو الحاج عمر، وسيد عبد الله بن امبوجه التيشيتي كان بمثابة الوزير لابن الحاج عمر وخليفته أحمد(1891هـ) الذي تلقب بأمير المؤمنين ، وما زالت مكتبات تيشيت تحتفظ ببعض الوثائق الدالة على هذا التواصل، فهناك وثيقة مختومة بختم هذا الخليفة ( عبد ربه أمير المؤمنين أحمد الكبير وفقه الله ) يقول فيها : ( منا إلى عالمنا المبارك ( حمزة ) سلام، وأوصيك بتوقير أهل (الزر الساحلي)([1]) من تيشيت وتعظيم شأنهم العظيم عند الله، وتبجيلهم وإكرام جانبهم العلي ، والتماس رضاهم ، فإن في رضاهم رضي الله ).
ويقول في وثيقة أخرى مختومة بالختم نفسه:
( منا إلى " الحسن " سلام وإعلام بأن الشرفاء والعلماء أهل( الزر الساحلي) من تيشيت قد كثرت شكواهم منك ، والآن فاعلم بأنك لا سبيل لك إليهم ، ولا معاملة بينك بينهم إلا إذا اختاروها ودفعوا إليك شيئا طابت به نفوسهم وسمحت به اختيارا فلا بأس بأخذ ذلك منهم، فما وليناك أمرهم أصلا ورأسا، وإن لم يرضوا الإتيان إلينا ومعاملتنا أينما كنا فلهم ذلك خاصة بهم لمكانتهم العظيمة عند الله تعالى والسلام ) .
وكانت تربطهم بأمير زاره اتفاقية فيما يبدو من خلال الوثائق تسمح لهم بأخذ المواد التي يحتاجونه من إمارته، ويؤدون إليها عطاء .
أما بالنسبة للإمارات الموريتانية فكانت تربط أهل تيشيت بها علاقات جيدة عموما، وكانت علاقات ود وتقدير ، وكانت المجموعات المتجاورة في تيشيت تختلف في تلك العلاقات وتتفاوت فيها بطبيعة الحال.
وأعود إلا العلاقات مع الإمارات الإسلامية في الجنوب لأقول إنه لفت انتباهي وأنا أطالع الوثائق المتعلقة بهذه العلاقات أن أهل تيشيت كانوا يتطلعون لما هو أكبر من مجرد تأمين طرق التجارة والميرة، بل هناك تطلع واهتمام بالمشروع السياسي الإسلامي لهذه الإمارات، مما يدل على أن أهل تيشيت كانوا يعون تماما خطورة غياب الدولة الإسلامية وغياب وظائفها كالجهاد والعدل بين الناس، وضرورة إقامتها لمصلحة الدين والدنيا، ووجوب ذلك على المسلمين فقد وردت إشارات في هذا المنحى في الرسالة التي كأنهم يخاطبون فيها أحمد لب من خلال نائبه ، عند ما ذكروا له أنهم سمعوا أنه فتح باغنه وقدم إليها ( فسررنا بذلك المقدم... فرحا وسرورا بطلعة العدل، في هذه الأرض السائبة القليلة الجد الكثيرة الهزل .. وتنسمنا نسيما يجمع الأهواء المتفرقة على أكمل قانون، ويؤلف الآراء المتشتة بسره المنكون) ويخبرونه فيها عن الجماعة المتجهة إليه قائلين :
(إنهم من جملة أعوانك على ما أنت بصدده من الجهاد، ولكن بعد إمكان ذلك بتمهيد البلاد، ونرجو أن يكون ذلك إن شاء الله حتى تسير الظعينة وحدها فيما بين جزيرة النصارى وتنبكت لا تخاف إلا الله ).
ويتطور هذا التطلع للجهاد وإقامة الدولة الإسلامية ليصبح فكرة أساسية وهما يسكن نفس أحد أكبر علماء تيشيت وأكثرهم اهتماما بالشأن العام أحمد الصغير بن حمى الله المسلمي ( 1223 – 1272 هـ) فيصدع بذلك في بعض مؤلفاته، فيقول في ( فتح المقيت ) يجب على أهل هذا البلاد كلها أن تنصب إماما تجتمع فيه شروط الإمام الشرعية، وهو واجب ضيعوه بسبب حب الدنيا والحسد، فصارت هذه البلاد السائبة كما قيل : ( حوت يبلع حوتا) .
وأصبح هو الهدف الأساسي عنده من العلاقة مع أمراء الجنوب، فقد كتب رسائل متعددة إلى الشيخ أحمد لب الماسني المتقدم، وإلى ابنه أحمد بن الشيخ أحمد لب في هذا الشأن، فخاطب أحمد لب في رسالة له طويلة يقول فيها:( من العبد الفقير إلى مولاه أحمد بن حمى الله ثم من سائر قرى أهل الصحراء، وبواديها السائمين في العراء، إلى الشيخ الأمير ... الحكم العدل العالم...أحمد بن محمد بن أبي بكر بن سعيد لب... ثم إلى سائر من هو في بيعته من العمال العدول... هذا ولتعلموا أنا ولله الحمد مغتبطون بما أولاكم الله، مسرورون بما ولاكم إياه، أدام الله لكم ذلك، وأسس على البر والتقوى ما هنالك، فإنا ـ والله ـ نحبكم لله، لا رغبة في الزهرة التي قطفت أيديكم، ولا طمعا في شيء آخر لديكم... ولقد وطئنا بحبكم والدعاء لكم بالنصر والكتب إليكم موطئا يغيظ الكفار... ولقد جاهدنا بالقلب واللسان، حيث أعوز الجهاد بالسنان).
i

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قبيلة لقلال ... في سطور

أولاد سيد بوبكر المعروفين محليا ب"شرفاء لقلال

نبذة مؤجزة عن قبيلة الاقلال